سورة النساء - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)}
{وَءاتُواْ النساء} أي اعطوا النساء اللاتي أمر بنكاحهن {صدقاتهن} جمع صدقة بفتح الصاد وضم الدال، وهي كالصداق عنى المهر، وقرئ صدقاتهنّ بفتح الصاد وسكون الدال، وأصلها بضم الدال فخففت بالتسكين، وصدقاتهن بضم الصاد وسكون الدال جمع صدقة بوزن غرفة، وقرئ صدقتهن بضم الصاد والدال على التوحيد، وأصله صدقة بضم الصاد وسكون الدال فضمت الدال اتباعًا لضم الأول كما يقال: ظلمة وظلمة.
{نِحْلَةً} أي فريضة قاله ابن عباس وابن زيد وابن جريج وقتادة فانتصابها على الحالية من الصدقات أي أعطوهن مهورهنّ حال كونها فريضة من الله تعالى لهنّ. وقال الزجاج، وابن خالويه: تدينا فانتصابها على أنها مفعول له أي أعطوهنّ ديانة وشرعة، وقال الكلبي: هبة وعطية من الله وتفضلًا منه تعالى عليهن فانتصابها على الحالية من الصدقات أيضًا، وقيل عطية: من الأزواج لهنّ فانتصابها على المصدر، أو على الحالية من ضمير آتوا أو من النساء أو من صدقاتهنّ. واعترض بأن الحال قيد للعامل فيلزم هنا كون الإيتاء قيدًا للإيتاء والشيء لا يكون قيدًا لنفسه، وأجيب بأن النحلة ليست مطلق الإيتاء بل هي نوع منه، وهو الإيتاء عن طيب نفس، فالمعنى أعطوهنّ صدقاتهنّ طيبي النفوس بالإعطاء، أو معاطاة عن طيب نفس، وعليه فالمصدر مبين للنوع.
فإن قلت إن النحلة أخذ في مفهومها أيضًا عدم العوض فكيف يكون المهر بلا عوض وهو في مقابلة البضع والتمتع به؟ أجيب بأنه لما كان للزوجة في الجماع مثل ما للزوج أو أزيد وتزيد عليه بوجوب النفقة والكسوة كان المهر مجانًا لمقابلة التمتع بتمتع أكثر منه، وقيل: إن الصداق كان في شرع من قبلنا للأولياء بدليل قوله تعالى: {إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتى} [القصص: 27] الخ، ثم نسخ فصار ذلك عطية اقتطعت لهنّ فسمي نحلة، وأيد غير واحد قول الكلبي: بأن ما وضع له لفظ النحلة هو العطية من غير عوض كما ذهب إليه جماعة منهم الرماني، وجعل من ذلك النحلة للديانة لأنها كالنحلة التي هي عطية من الله تعالى والنحل للدبر لما يعطي من العسل، والناحل للمهزول لأنه يأخذ لحمه حالًا بعد حال كأنه المعطيه بلا عوض، والمنحول من الشعر لأنه نحلة الشاعر ما ليس له، وحينئذٍ فمن فسر النحلة بالفريضة نظر إلى أن هذه العطية فريضة، والخطاب على ما هو المتبادر للأزواج، وإليه ذهب ابن عباس وجماعة، واختاره الطبري والجبائي وغيرهما قيل: كان الرجل يتزوج بلا مهر يقول: أرثك وترثيني؟ فتقول: نعم، فأمروا أن يسرعوا إلى إعطاء المهور، وقيل: الخطاب لأولياء النساء فقد أخرج ابن حميد وابن أبي حاتم عن أبي صالح قال: كان الرجل إذا زوج أيمًا أخذ صداقها دونها فنهاهم الله تعالى عن ذلك ونزلت {وَءاتُواْ النساء} الخ، وروى ذلك الجارود من الإمامية عن الباقر رضي الله تعالى عنه، وهذه عادة كثير من العرب اليوم، وهو حرام كأكل الأزواج شيئًا من مهور النساء بغير رضاهنّ.
{فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ} الضمير للصدقات وتذكيره لإجرائه مجرى ذلك فإنه كثيرًا ما يشار به إلى المتعدد كقوله تعالى: {قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم} [آل عمران: 15] بعد ذكر الشهوات المعدودة، وقد روي عن أبي عبيدة أنه قال: قلت لرؤبة في قوله:
فيها خطوط من سواد وبلق *** كأنه في الجلد توليع البهق
إن أردت الخطوط: فقل كأنها، وإن أردت السواد والبلق فقل كأنهما، فقال: أردت كأن ذلك ويلك، أو للصداق الواقع موقعه صدقاتهن كأنه قيل: وآتوا النساء صداقهن والحمل على المعنى كثير، ومنه قوله تعالى: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن} [المنافقون: 10] حيث عطف على ما دل عليه المذكور ووقع موقعه، أو للصداق الذي في ضمن الجمع لأن المعنى آتوا كل واحدة من النساء صداقًا، وقيل: الضمير عائد إلى الإيتاء، واعترض بأنه إنما يستقيم إذا أريد به المأتى، ورجوع ضمير إلى مصدر مفهوم، ثم تأويل ذلك المصدر عنى المفعول لا يخلو عن بعد، واللام متعلقة بالفعل وكذا عن بتضمينه معنى التجافي والتباعد، وإلا فأصله أن يتعدى لمثل ذلك بالباء كقوله:
وما كاد نفسًا بالفراق تطيب ***
ومن متعلقة حذوف وقع صفة لشيء أي كائن من الصداق، وفيه بعث لهنّ على تقليل الموهوب حتى نقل عن الليث أنه لا يجوز تبرعهن إلا باليسير ولا فرق بين المقبوض وما في الذمة إلا أن الأول هبة والثاني إبراء، ولذلك تعامل الناس على التعويض فيه ليرتفع الخلاف.
{نَفْسًا} تمييز لبيان الجنس ولذا وحد، وتوضيح ذلك على ما ذكره بعض المحققين أن التمييز كما قاله النحاة إن اتحد معناه بالمميز وجبت المطابقة نحو كرم الزيدون رجالًا كالخبر والصفة والحال، وإلا فإن كان مفردًا غير متعدد وجب إفراده نحو كرم بنو فلان أبًا إذ المراد أن أصلهم واحد متصف بالكرم فإن تعدد وألبس وجب خلفه بظاهر نحو كرم الزيدون آباءًا إذا أريد أن لكل منهم أبًا كريمًا إذ لو أفرد توهم أنهم من أب واحد، والغرض خلافه وإن لم يلبس جاز الأمران، ومصحح الإفراد عدم الإلباس كما هنا لأنه لا يتوهم أن لهن نفسًا واحدة ومرجحه أنه الأصل مع خفته ومطابقته لضمير {مِنْهُ}، وهو اسم جنس والغرض هنا بيان الجنس، والواحد يدل عليه كقولك: عشرون درهمًا، والمعنى فإن وهبن لكم شيئًا من الصداق متجافيًا عنه نفوسهن طيبات غير مخبثات بما يضطرهن إلى البذل من شكاسة أخلاقكم وسوء معاملتكم، وإنما أوثر ما في النظم الكريم دون فإن وهبن لكم شيئًا منه عن طيب نفس إيذانًا بأن العمدة في الأمر طيب النفس وتجافيها عن الموهوب بالمرة حيث جعل ذلك مبتدأً وركنًا من الكلام لا فضلة كما في التركيب المفروض.
{فَكُلُوهُ} أي فخذوا ذلك الشيء الذي طابت لكم عنه نفوسهن وتصرفوا فيه تملكًا، وتخصيص الأكل بالذكر لأنه معظم وجوه التصرفات المالية. {هَنِيئًا مَّرِيئًا} صفتان من هنؤ الطعام يهنؤ هناءة ومرؤ يمرؤ مراءة إذا لم يثقل على المعدة وانحدر عنها طيبًا. وفي الصحاح نقلًا عن الأخفش يقال: هنؤ وهنىء. ومرؤ ومرىء، كما يقال: فقه وفقه بكسر القاف وضمها ويقال: هنأني الطعام يهنئني ويهنأني ولا نظير له في المهموز هنأ وهنأ، وتقول: هنئت الطعام أي تهنأت به وكذا يقال: مرأني الطعام يمرأ مرءًا، وقال بعضهم: أمرأني، وقال الفراء: يقال: هنأني الطعام ومرأني بغير ألف فإذا أفردوها عن هنأني قالوا: أمرأني، وقيل الهنىء الذي يلذه الآكل، والمرىء ما تحمد عاقبته، وقيل: ما ينساغ في مجراه الذي هو المرىء كأمير وهو رأس المعدة، والكرش اللاصق بالحلقوم سمي به لمرور الطعام فيه أي انسياغه، وانتصابهما كما قال الزمخشري على أنهما صفتان للمصدر أي أكلًا هنيئًا مريئًا ووصف المصدر بهما كما قال السعد: على الإسناد المجازي إذ الهنىء حقيقة هو المأكول أو على أنهما حالان من الضمير المنصوب أي كلوه وهو هنيء مريء، وقد يوقف على كلوه ويبتدأ هنيئًا مريئًا على الدعاء وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين كأنه قيل: هنأ مرأ، وأورد على ذلك مع أن الدعاء لا يكون من الله تعالى حتى أولوه أنه تحريف لكلام النحاة ومخالفة لهم، فإنهم يجعلون انتصاب {هَنِيئًَا} على الحال، و{مَّرِيئًا} إما على الحال، وإما على الوصف، ويدل على فساد ما خرّجه الزمخشري وصحة قول النحاة ارتفاع الأسماء الظاهرة بعد {هَنِيئًا مَّرِيئًا}، ولو كانا منتصبين انتصاب المصادر المراد بها الدعاء لما جاز ذلك فيها كما لا يجوز أن يقال: في سقيا لك ورعيا سقيا الله تعالى لك ورعيا الله لك، وإن كان ذلك جائزًا في فعله، والدليل على جواز رفع الأسماء الظاهرة بعدهما قول كثير:
هنيئًا مريئًا غير داء مخامر *** لعزة من أعراضنا ما استحلت
فإن ما مرفوعة بما تقدم من {هَنِيئًَا} أو {مَّرِيئًا} على طريق الإعمال، وجاز الإعمال في هذه المسألة، وإن لم يكن بينهما رابط عطف لكون مريئًا في الغالب لا يستعمل إلا تابعًا لهنيئًا فصارا كأنهما مرتبطان لذلك ورد بأن سيبويه قال: هنيئًا مريئًا صفتان نصبهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل غير المستعمل إظهاره المختزل لدلالة الكلام عليه، وفيه أنه ليس بنص فيما ذهب إليه الزمخشري لاحتمال أنه أراد أنهما صفتان منصوبان على الحالية، والعامل فيهما فعل محذوف يدل الكلام عليه كالمصادر المدعو بها في أنها معمولة لفعل محذوف يدل الكلام عليه، ويؤيد ذلك أنه قال بعد ذلك كأنهم قالوا: ثبت ذلك هنيئًا فإن هذا مما يقال: على تقدير إقامتهما مقام المصدر، ومن هنا قال السفاقسي: إن مذهب سيبويه والجماعة أنهما حال منصوب بفعل مقدر محذوف وجوبًا لقيامهما مقامه كقولك: أقائمًا وقد قعد الناس، واعترض بهذا على ما تقدم من احتمال جعلهما حالًا من الضمير المنصوب في {كلوه} إذ عليه يكونان من جملة أخرى لا تعلق لهما بكلوا من حيث الإعراب.
واعترض أيضًا على الاستدلال بالبيت على رفع الظاهر بهما بأنه لا يتم لجواز أن تكون ما مرفوعة بالابتداء ولعزة خبره، أو مرفوعة بفعل مقدر، وكيفما كان الأمر يكون قوله سبحانه ذلك عبارة عن التحليل والمبالغة في الإباحة وإزالة التبعة، وفي «كتاب العياشي» من الإمامية مرفوعًا إلى عليّ كرم الله تعالى وجهه أنه جاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إن في بطني وجعًا فقال: ألك زوجة؟ قال: نعم. قال: استوهب منها شيئًا طيبة به نفسها من مالها ثم اشتر به عسلًا ثم اسكب عليه من ماء السماء ثم اشربه فإني سمعت الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السماء مَاء مباركا} [ق: 9] وقال تعالى: {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ} [النحل: 69] وقال عز شأنه: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا} فإذا اجتمعت البركة والشفاء والهنىء والمرىء شفيت إن شاء الله تعالى ففعل الرجل ذلك فشفي، وأخرج عبد بن حميد وغيره من أصحابنا عن علي كرم الله تعالى وجهه ما يقرب من هذا بلفظ إذا اشتكى أحدكم فليسأل امرأته ثلاثة دراهم أو نحوها فليشتر بها عسلًا وليأخذ من ماء السماء فيجمع هنيًا مريئًا وشفاءً ومباركًا. وأخرج ابن جرير عن حضرمي أن أناسًا كانوا يتأثمون أن يرجع أحدهم في شيء مما ساقه إلى امرأته فنزلت هذه الآية، وفيها دليل على ضيق المسلك في ذلك ووجوب الاحتياط حيث بني الشرط على طيب النفس وقلما يتحقق ولهذا كتب عمر رضي الله تعالى عنه إلى قضاته أن النساء تعطين رغبة ورهبة فأيما امرأة أعطت ثم أرادت أن ترجع فذلك لها. وحكى الشعبي أن رجلًا أتى مع امرأته شريحًا في عطية أعطتها إياه وهي تطلب أن ترجع فقال شريح: ردها عليها فقال الرجل: أليس قد قال الله تعالى: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ} قال: لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه، وعنه أقيلها فيما وهبت ولا أقيله لأنهن يخدعن والذي عليه الحنفيون أن الزوجة إذا وهبت شيئًا للزوج ليس لها الرجوع فيه بل ذكر ابن هبيرة اتفاق الأئمة الأربعة على أنه ليس لأحد من الزوجين الرجوع فيما وهب لصاحبه.


{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)}
{وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم} رجوع إلى بيان بقية الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى وتفصيل ما أجمل فيما سبق من شرط إيتائها ووقته وكيفيته إثر بيان بعض الأحكام المتعلقة بالأنفس أعني النكاح، وبيان بعض الحقوق المتعلقة بالأجنبيات من حيث النفس ومن حيث المال استطرادًا إذ الخطاب كما يدل عليه كلام عكرمة للأولياء، وصرح هو وابن جبير بأن المراد من السفهاء اليتامى، ومن أموالكم أموالهم وإنما أضيفت إلى ضمير الأولياء المخاطبين تنزيلًا لاختصاصها بأصحابها منزلة اختصاصها بهم فكأن أموالهم عين أموالهم لما بينهم وبينهم من الاتحاد الجنسي والنسبي مبالغة في حملهم على المحافظة عليها، ونظير ذلك قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29] فإن المراد لا يقتل بعضكم بعضًا إلا أنه عبر عن نوعهم بأنفسهم مبالغة في الزجر عن القتل حتى كأن قتلهم قتل أنفسهم، وقد أيد ذلك بما دل عليه قوله سبحانه: {التى جَعَلَ الله لَكُمْ قياما} حيث عبر عن جعلها مناطًا لمعاش أصحابها بجعلها مناطًا لمعاش الأولياء، ومفعول {جَعَلَ} الأول محذوف وهو ضمير الأموال، والمراد من القيام ما به القيام والتعيش، والتعبير بذلك زيادة في المبالغة وهو المفعول الثاني لجعل، وقد جوز أن يكون المحذوف وحده مفعولًا، وهذا حالًا منه؛ وقيل: إنما أضيفت الأموال إلى ضمير الأولياء نظرًا إلى كونها تحت ولايتهم. واعترض بأنه وإن كان صحيحًا في نفسه لأن الإضافة لأدنى ملابسة ثابتة في كلامهم كما في قوله:
إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة *** سهيل أذاعت غزلها في القرائب
إلا أنه غير مصحح لاتصاف الأموال بما بعدها من الصفة، وقيل: إنما أضيفت إلى ضميرهم لأن المراد بالمال جنسه مما يتعيش الناس به ونسبته إلى كل أحد كنسبته إلى الآخر لعموم النسبة والمخصوص بواحد دون واحد شخص المال فجاز أن ينسب حقيقة إلى الأولياء كما ينسب إلى الملاك، ويؤيد ذلك وصفه بما لا يختص ال دون مال، واعترض بأن ذلك عزل عن حمل الأولياء على المحافظة المذكورة كيف لا والوحدة الجنسية المالية ليست مختصة بما بين أموال اليتامى وأموال الأولياء بل هي متحققة بين أموالهم وأموال الأجانب فإذًا لا وجه لاعتبارها أصلًا، وروي أنه سئل الصادق رضي الله تعالى عنه عن هذه الإضافة، وقيل له: كيف كانت أموالهم أموالنا؟ فقال: إذ كنتم وارثين لهم، وفيه احتمالان: أحدهما: أنه إشارة إلى ما ذكرناه أولًا في توجيه الإضافة، وثانيهما: أن ذلك من مجاز الأول، ويرد عليه حينئذ بعد القول بكذب نسبته إلى الصادق رضي الله تعالى عنه أن الأول غير متحقق بل العادة في الغالب على خلافه، والحمل على التفاؤل مما يتشاءم منه الذوق السليم.
وذكر العلامة الطيبي أنه إنما أضيف الأموال إلى اليتامى في قوله تعالى: {وَءاتُواْ اليتامى أموالهم} [النساء: 2] ولم يضفه إليهم هنا مع أن الأموال في الصورتين لهم ليؤذن بترتب الحكم على الوصف فيهما فإن تسميتهم يتامى هناك يناسب قطع الطمع فيفيد المبالبغة في ردّ الأموال إليهم، فاقتضى ذلك أن يقال: أموالهم، وأما الوصف هنا فهو السفاهة فناسب أن لا يختصوا بشيء من المالكية لئلا يتورطوا في الأموال فلذلك لم يضف أموالهم إليهم وأضافها إلى الأولياء انتهى، ولا يخفى أنه بيان للعلة المرجحة لإضافة الأموال لمن ذكر، وينبغي أن تكون العلة المصححة ما مرّ آنفًا، ثم وصف اليتامى بأنهم سفهاء باعتبار خفة أحلامهم واضطراب آرائهم لما فيهم من الصغر وعدم التدرب، وأصل السفه الخفة والحركة، يقال: تسفهت الريح الشجر أي مالت به، قال ذو الرمة:
جرين كما اهتزت رماح تسفهت *** أعاليها مر الرياح النواسم
وقال أيضًا:
على ظهر مقلات سفيه جديلها ***
يعني خفيف زمامها، ولكون هذا الوصف مما ينشأ منه تبذير المال وتلفه المخل بحال اليتيم ناسب أن يجعل مناطًا لهذا الحكم، وقد فسر السفهاء بالمبذرين بالفعل من اليتامى وإلى تفسير الآية بما ذكرنا ذهب الكثير من المتأخرين، وروي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما أن المراد بالسفهاء النساء والصبيان، والخطاب لكل أحد كائنًا من كان، والمراد نهيه عن إيتاء ماله من لا رشد له من هؤلاء، وقيل: إن المراد بهم النساء خاصة، وروي عن مجاهد وابن عمر، وروي عن أنس بن مالك أنه قال: «جاءت امرأة سوداء جرية المنطق ذات ملح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله قل فينا خيرًا مرة واحدة فإنه بلغني أنك تقول فينا كل شر قال: أي شيء قلت فيكن؟ قالت: سميتنا السفهاء فقال: الله تعالى سماكن السفهاء في كتابه، قالت: وسميتنا النواقص، فقال: كفى نقصانا أن تدعن من كل شهر خمسة أيام لا تصلين فيها، ثم قال: أما يكفي إحداكن أنها إذا حملت كان لها كأجر المرابط في سبيل الله تعالى وإذا وضعت كانت كالمشتحط في دمه في سبيل الله تعالى فإذا أرضعت كان لها بكل جرعة كعتق رقبة من ولد إسماعيل فإذا سهرت كان لها بكل سهرة تسهرها كعتق رقبة من ولد إسماعيل وذلك للمؤمنات الخاشعات الصابرات اللاتي لا يكفرن العشير فقالت: السوداء يا له من فضل لولا ما يتبعه من الشرط».
وقيل: إن السفهاء عام في كل سفيه من صبي أو مجنون أو محجور عليه للتبذير، وقريب منه ما روي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن السفيه شارب الخمر ومن يجري مجراه، وجعل الخطاب عامًا أيضًا للأولياء وسائر الناس، والإضافة في أموالكم لا تفيد إلا الاختصاص وهو شامل لاختصاص الملكية واختصاص التصرف، وأيد ما ذهب إليه الكثير بأنه الملائم للآيات المتقدمة والمتأخرة، ومن ذهب إلى غيره جعل ذكر هذا الحكم استطرادًا وكون ذلك مخلًا بجزالة النظم الكريم محل تأمل، وقرأ نافع وابن عامر {قيمًا} بغير ألف، وفيه كما قال أبو البقاء ثلاثة أوجه: أحدها: أنه مصدر مثل الحول والعوض وكان القياس أن تثبت الواو لتحصنها بتوسطها كما صحت في العوض والحول لكن أبدلوها ياءًا حملًا على قيام، وعلى اعتلالها في الفعل، والثاني: أنها جمع قيمة كديمة وديم والمعنى إن الأموال كالقيم للنفوس إذ كان بقاؤها بها، وقال أبو علي: هذا لا يصح لأنه قد قرئ في قوله تعالى: {دِينًا قِيَمًا مّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [الأنعام: 161] وقوله سبحانه: {الكعبة البيت الحرام قَيِّمًا} [المائدة: 97] ولا يصح معنى القيمة فيهما. والثالث: أن يكون الأصل قيامًا فحذفت الألف كما حذفت في خيم؛ وإلى هذا ذهب بعض المحققين وجعل ذلك مثل عوذًا وعياذًا، وقرأ ابن عمر قوامًا بكسر القاف وبواو وألف، وفيه وجهان: الأول: أنه مصدر قاومت قوامًا مثل لاوذت لواذًا فصحت في المصدر كما صحت في الفعل، والثاني: أنه اسم لما يقوم به الأمر وليس صدر، وقرئ كذلك إلا أنه بغير ألف وهو مصدر صحت عينه وجاءت على الأصل كالعوض، وقرئ بفتح القاف وواو وألف، وفيه وجهان: أحدهما: أنه اسم مصدر مثل السلام والكلام والدوام، وثانيهما: أنه لغة في القوام الذي هو عنى القامة يقال: جارية حسنة القوام والقوام، والمعنى التي جعلها الله تعالى سبب بقاء قامتكم، وعلى سائر القراءات في الآية إشارة إلى مدح الأموال وكان السلف يقولون: المال سلاح المؤمن ولأن أترك مالًا يحاسبني الله تعالى عليه خير من أن احتاج إلى الناس، وقال عبد الله بن عباس: الدراهم والدنانير خواتيم الله في الأرض لا تؤكل ولا تشرب حيث قصدت بها قضيت حاجتك، وقال قيس بن سعد: اللهم ارزقني حمدًا ومجدًا فإنه لا حمد إلا بفعال ولا مجد إلا ال، وقيل لأبي الزناد: لم تحب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا؟ فقال: هي وإن أدنتني منها فقد صانتني عنها، وفي «منثور الحكم» من استغنى كرم على أهله، وفيه أيضًا الفقر مخذلة والغنى مجذلة والبؤس مرذلة والسؤال مبذلة وكانوا يقولون: اتجروا واكتسبوا فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه، وقال أبو العتاهية:
أجلك قوم حين صرت إلى الغنى *** وكل غني في العيون جليل
إذا مالت الدنيا على المرء رغبت *** إليه ومال الناس حيث يميل
وليس الغنى إلا غنى زين الفتى *** عشية يقري أو غداة ينيل
وقد أكثر الناس في مدح المال واختلفوا في تفضيل الغنى والفقر، واستدل كل على مدعاه بما لا يتسع له هذا المجال، ولشيخنا علاء الدين أعلى الله تعالى درجته في أعلى عليين:
قالوا اغتنى ناس وإنا نرى *** عنك وأنت العلم المال مال
قلت غنى النفس كمال الغنى *** والفقر كل الفقر فقد الكمال
وله أيضًا:
قالوا حوى المال رجال *** وما على كمال نلت هذا المنال
فقلت حازوا بعض أجزائه *** وإنني حزت جميع الكمال
{وارزقوهم فِيهَا واكسوهم} أي اجعلوها مكانا لرزقهم وكسوتهم بأن تتجروا وتربحوا حتى تكون نفقاتهم من الأرباح لا من صلب المال لئلا يأكله الانفاق، وهذا ما يقتضيه جعل الأموال نفسها ظرفًا للرزق والكسوة، ولو قيل: منها كان الانفاق من نفس المال، وجوز بعضهم أن تكون في عنى من التبعيضية.
{وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} أي كلامًا تطيب به نفوسهم كأن يقول الولي لليتيم: مالك عندي وأنا أمين عليه فإذا بلغت ورشدت أعطيتك مالك، وعن مجاهد وابن جريج أنهما فسرا القول المعروف بِعِدَة جميلة في البر والصلة، وقال ابن عباس: هو مثل أن يقول: إذا ربحت في سفري هذا فعلت بك ما أنت أهله، وإن غنمت في غزاي جعلت لك حظًا، وقال الزجاج: علموهم مع إطعامكم وكسوتكم إياهم أمر دينهم مما يتعلق بالعلم والعمل، وقال القفال: إن كان صبيًا فالوصي يعرفه أن المال ماله وأنه إذا زال صباه يرد المال إليه، وإن كان سفيهًا وعظه وحثه على الصلاة وعرفه أن عاقبة الاتلاف فقر واحتياج.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية إن كان ليس من ولدك ولا ممن يجب عليك أن تنفق عليه فقل له: عافانا الله تعالى وإياك بارك الله تعالى فيك، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر لما أنه ظاهر في أن الخطاب في هذه الجملة ليس للأولياء، وبالجلمة كل ما سكنت إليه النفس لحسنه شرعًا أو عقلًا من قول أو عمل معروف، وكل ما أنكرته لقبحه شرعًا أو عقلًا منكر قاله غير واحد وليس إشارة إلى المذهبين في الحسن والقبح هل هو شرعي أو عقلي كما قيل إذ لا خلاف بيننا وبين القائلين بالحسن والقبح العقليين في الصفة الملائمة للغرض والمنافرة له، وإن منها ما مأخذه العقل وقد يرد به الشرع، وإنما الخلاف فيما يتعلق به المدح والذم عاجلًا والثواب والعقاب آجلا هل هو مأخذه الشرع فقط أو العقل على ما حقق في الأصول.


{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)}
{وابتلوا اليتامى} شروع في تعيين وقت تسليم أموال اليتامى إليهم وبيان شرطه بعد الأمر بإيتائها على الإطلاق، والنهي عنه عند كون أصحابها سفهاء قاله شيخ الإسلام وهو ظاهر على تقدير أن يراد من السفهاء المبذرين بالفعل من اليتامى وأما على تقدير أن يراد بهم اليتامى مطلقًا ووصفهم بالسفه باعتبار ما أشير إليه فيما مرّ ففيه نوع خفاء، وقيل: إن هذا رجوع إلى بيان الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى لا شروع وهو مبني على أن ما تقدم كان مذكورًا على سبيل الاستطراد والخطاب للأولياء، والابتلاء الاختبار أي واختبروا من عندكم من اليتامى بتتبع أحوالهم في الاهتداء إلى ضبط الأموال وحسن التصرف فيها وجربوهم بما يليق بحالهم والاقتصار على هذا الاهتداء رأي أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه والشافعي رحمه الله تعالى يعتبر مع هذا أيضًا الصلاح في الدين، إلى ذلك ذهب ابن جبير، ونسب إلى ابن عباس والحسن.
واتفق الإمامان رضي الله تعالى عنهما على أن هذا الاختبار قبل البلوغ وظاهر الكلام يشهد لهما لما تدل عليه الغاية، وقال الإمام مالك: إنه بعد البلوغ، وفرع الإمام الأعظم على كون الاختبار قبل، أن تصرفات العاقل المميز بإذن الولي صحيحة لأن ذلك الاختبار إنما يحصل إذا أذن له في البيع والشراء مثلا، وقال الشافعي: الاختبار لا يقتضي الإذن في التصرف لأنه يتوقف على دفع المال إلى اليتيم وهو موقوف على الشرطين وهما إنما يتحققان بعد، بل يكون بدونه على حسب ما يليق بالحال، فولد التاجر مثلا يختبر في البيع والشراء إلى حيث يتوقف الأمر على العقد وحينئذ يعقد الولي إن أراد وعلى هذا القياس.
{حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ} أي إذا بلغوا حدّ البلوغ وهو إما بالاحتلام أو بالسن وهو خمس عشرة سنة عند الشافعي وأبي يوسف ومحمد وهي رواية عن أبي حنيفة وعليها الفتوى عند الحنفية لما أن العادة الفاشية أن الغلام والجارية يصلحان للنكاح وثمرته في هذه المدة ولا يتأخران عنها، والاستدلال بما أخرجه البيهقي في «الخلافيات» من حديث أنس إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كتب ما له وما عليه وأقيمت عليه الحدود ضعيف لأن البيهقي نفسه صرح بأن إسناد الحديث ضعيف، وشاع عن الإمام الأعظم أن السن للغلام تمام ثماني عشرة سنة وللجارية تمام سبع عشرة سنة، وله في ذلك قوله تعالى: {حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152] وأشُدّ الصبي ثماني عشرة سنة هكذا قاله ابن عباس وتابعه القتبي، وهذا أقل ما قيل فيه فيبنى الحكم عليه للتيقن غير أن الإناث نشؤهن وإدراكهن أسرع فنقصنا في حقهن سنة لاشتمالها على الفصول الأربعة التي يوافق واحد منها المزاج لا محالة، وعنه في الغلام تسع عشرة سنة، والمراد أن يطعن في التاسعة عشرة ويتم له ثماني عشرة، وقيل: فيه اختلاف الرواية لذكر حتى يستكمل تسع عشرة سنة.
وشاع عن الإمام الشافعي أنه قد جعل الإنبات دليلًا على البلوغ في المشركين خاصة، وشنع ابن حزم الضال عليه، والذي ذكره الشافعية أنه إذا أسر مراهق ولم يعلم أنه بالغ فيفعل فيه ما يفعل بالبالغين من قتل ومنّ وفداء بأسرى منًّا أو مال واسترقاق أو غير بالغ فيفعل فيه ما يفعل بالصبيان من الرق يكشف عن سوأته فإن أنبت فله حكم الرجال وإلا فلا وإنما يفعل به ذلك لأنه لا يخبر المسلمين ببلوغه خوفًا من القتل بخلاف المسلم فإنه لا يحتاج إلى معرفة بلوغه بذلك، ولا يخفى أن هذا لا يصلح محلًا للتشنيع وغاية ما فيه أنه جعل الإنبات سببًا لإجراء أحكام الرجال عليه في هذه المسألة لعدم السبيل إلى معرفة البلوغ فيها وصلاحيته لأن يكون أمارة في الجملة لذلك ظاهرة، وأما أن فيه أن الإنبات أحد أدلة البلوغ مثل الاحتلام والإحبال والحيض والحبل في الكفار دون المسلمين فلا.
{فَإِنْ ءانَسْتُمْ} أي أحسستم قاله مجاهد وأصل معنى الاستئناس كما قال الشهاب النظر من بعد وضع اليد على العين إلى قادم ونحوه ما يؤنس به، ثم عم في كلامهم قال الشاعر:
آنست نبأة وأفزعها الق *** ناص عصرًا وقد دنا الإمساء
ثم استعير للتبين أي علم الشيء بينا، وزعم بعضهم أن أصله الإبصار مطلقًا وأنه أخذ من إنسان العين وهو حدقتها التي يبصر بها، وهو هنا محتمل لأن يراد منه المعنى المجازي أو المعنى الحقيقي، وقرأ ابن مسعود أحستم بحاء مفتوحة وسين ساكنة، وأصله أحسستم بسينين نقلت حركة الأولى إلى الحاء وحذفت لالتقاء الساكنين إحداهما على غير القياس، وقيل: إنها لغة سليم وإنها مطردة في عين كل فعل مضاعف اتصل بها تاء الضمير، أو نونه كما في قول أبي زيد الطائي:
خلا أن العتاق من المطايا *** أحسن به فهن إليه شوس
{مّنْهُمْ رُشْدًا} أي اهتداءًا إلى ضبط الأموال وحسن التصرف فيها، وقيل: صلاحًا في دينهم وحفظًا لأموالهم، وتقديم الجار والمجرور لما مر غير مرة، وقرئ {رشدًا} بفتحتين، و{رشدًا} بضمتين، وهما عنى رشدًا، وقيل: الرشد بالضم في الأمور الدنيوية والأخروية، وبالفتح في الأخروية لا غير، والراشد والرشيد يقال فيهما {فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم} أي من غير تأخير عن حدّ البلوغ كما تدل عليه الفاء، وفي إيثار الدفع على الإيتاء في أول الأمر إيذان على ما ذهب إليه البعض بتفاوتهما بحسب المعنى، وقد تقدم الكلام في ذلك، ونظم الآية أن حتى هي التي تقع بعدها الجمل كالتي في قوله:
سريت بهم حتى تكل مطيهم *** وحتى الجياد ما يقدن بأرسان
وتسمى ابتدائية في ذلك، ولا يذهب منها معنى الغاية كما نصوا عليه في عامة كتب النحو، وذكره الكثير من الأصوليين خلافًا لمن وهم فيه، وما بعدها جملة شرطية جعلت غاية للابتلاء، وفعل الشرط بلغوا وجوابه الشرطية الثانية كما حققه غير واحد من المعربين، وبيان ذلك أنه ذكر في شرح التسهيل لابن عقيل أنه إذا توالى شرطان فأكثر كقولك: إن جئتني إن وعدتك أحسنت إليك، فأحسنت إليك جواب إن جئتني واستغنى به عن جواب إن وعدتك، وزعم ابن مالك أن الشرط الثاني مقيد للأول، نزلة الحال، وكأنه قيل: إن جئتني في حال وعدي لك، والصحيح في هذه المسألة أن الجواب للأول، وجواب الثاني محذوف لدلالة الشرط الأول وجوابه عليه فإذا قلت: إن دخلت الدار إن كلمت زيدًا إن جاء إليك فأنت حر، فأنت حرّ جواب إن دخلت، وإن دخلت، وجوابه دليل جواب إن كلمت، وإن كلمت وجوابه دليل جواب إن جاء، والدليل على الجواب جواب في المعنى، والجواب متأخر فالشرط الثالث مقدم وكذا الثاني فكأنه قيل: إن جاء فإن كلمت فإن دخلت فأنت حر فلا يعتق إلا إذا وقعت هكذا مجيء ثم كلام ثم دخول، وهو مذهب الشافعي، وذكر الجصاص أن فيها خلافًا بين محمد وأبي يوسف، وليس مذهب الشافعي فقط والسماع يشهد له قال:
إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجدوا *** منا معاقد عز زانها كرم
وعليه فصحاء المولدين، وقال بعض الفقهاء: الجواب للأخير والشرط الأخير وجوابه جواب الثاني، والشرط الثاني وجوابه جواب الأول، فعلى هذا لا يعتق حتى يوجد هكذا دخول ثم كلام ثم مجيء، وقال بعضهم إذا اجتمعت حصل العتق من غير ترتيب وهذا إذا كان التوالي بلا عاطف فإن عاطف بأو فالجواب لأحدهما دون تعيين نحو إن جئتني، أو إن أكرمت زيدًا أحسنت إليك وإن كان بالواو فالجواب لهما. وإن كان بالفاء فالجواب للثاني، وهو وجوابه جواب الأول فتخرج الفاء عن العطف وما نحن فيه من المقرون بالفاء وهي رابطة للجواب كالفاء الثانية وما خرجناه عليه هو الذي ارتضاه جماعة منهم الزمخشري، ومذهب الزجاج وبعض النحاة والمؤنة عليه أقل أن حتى الداخلة على هذه الجملة حرف جر، وإذا متمحضة للظرفية وليس فيها معنى الشرط، والعامل فيها على التقدير الأول ما يتلخص من معنى جوابها والمعنى وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم فاستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم، وعبر في البلوغ بإذا وفي الإيناس بإن للفرق بينهما ظهورًا وخفاءًا.
وظاهر الآية الكريمة أنه لا يدفع إليهم ولو بلغوا ما لم يؤنس منهم الرشد وهو مذهب الشافعي، وقول الإمامين وبه قال مجاهد، فقد أخرج ابن المنذر وغيره عنه أنه قال: لا يدفع إلى اليتيم ماله وإن شمط ما لم يؤنس منه رشد، ونسب إلى الشعبي، وقال الإمام الأعظم.
إذا زادت على سن البلوغ سبع سنين وهي مدة معتبرة في تغير الأحوال إذ الطفل يميز بعدها ويؤمر بالعبادة كما في الحديث يدفع إليه ماله، وإن لم يؤنس الرشد لأن المنع كان لرجاء التأديب فإذا بلغ ذلك السن ولم يتأدب انقطع عنه الرجاء غالبًا فلا معنى للحجر بعده وفي الكافي. وللإمام الأعظم قوله تعالى: {وَءاتُواْ اليتامى أموالهم} [النساء: 2]، والمراد بعد البلوغ فهو تنصيص على وجوب دفع المال بعد البلوغ إلا أنه منع عنه ماله قبل هذه المدة بالإجماع ولا إجماع هنا فيجب دفع المال بالنص والتعليق بالشرط لا يوجب العدم عند العدم عندنا على أن الشرط رشد نكرة فإذا صار الشرط في حكم الوجود بوجه وجب جزاؤه، وأول أحوال البلوغ قد يقارنه السفه باعتبار أثر الصبا وبقاء أثره كبقاء عينه، وإذا امتد الزمان وظهرت الخبرة والتجربة لم يبق أثر الصبا وحدث ضرب من الرشد لا محالة لأنه حال كمال لبه فقد ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: ينتهي لب الرجل إذا بلغ خمسًا وعشرين. وقال أهل الطباع: من بلغ خمسًا وعشرين سنة فقد بلغ أشدّه ألا ترى أنه قد يصير جدًا صحيحًا في هذا السن لأن أدنى مدة البلوغ اثنا عشر حولًا وأدنى مدة الحمل ستة أشهر، ففي هذه المدة يمكن أن يولد له ابن ثم ضعف هذا المبلغ يولد لابنه ابن.
وأنت تعلم أن الاستدلال بما ذكر من الآية على الوجه الذي ذكر ظاهر بناءًا على أن المراد بالإيتاء فيها الدفع، وقد مر الكلام في ذلك، واعترض على قوله: على أن الشرط إلخ بأنه إذا كان ضرب من الرشد كافيًا كما يشعر به التنكير وكان ذلك حاصلًا لا محالة في ذلك السن كما هو صريح كلامه، واستدل عليه بما استدل كان الدفع حينئذ عند إيناس الرشد وهو مذهب الشافعي وقول الإمامين فلم يصح أن يقال: إن مذهب الإمام وجوب دفع مال اليتيم إليه إن أونس منه الرشد أو لم يؤنس، غاية ما في الباب أنه يبقى خلاف بين الإمام وغيره في أن الرشد المعتبر شرطًا للدفع في الآية ماذا وهو أمر آخر وراء ما شاع عن الإمام رضي الله تعالى عنه في هذه المسألة وأيضًا إن أريد بهذا الضرب من الرشد الذي أشار إليه التنوين هو الرشد في مصلحة المال فكونه لابد وأن يحصل في سن خمس وعشرين سنة في حيز المنع، وإن أريد ضرب من الرشد كيفما كان فهو على فرض تسليم حصوله إذ ذاك لا يجدي نفعًا إذ الآية كالصريحة في اشتراط الضرب الأول.
فقد قال الفخر: لا شك أن المراد من ابتلاء اليتامى المأمور به ابتلاؤهم فيما يتعلق صالح حفظ المال، وقد قال الله تعالى بعد ذلك الأمر {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا} فيجب أن يكون المراد فإن آنستم منهم رشدًا في حفظ المال وضبط مصالحه فإنه إن لم يكن المراد ذلك تفكك النظم ولم يبق للبعض تعلق بالبعض، وإذا ثبت هذا علمنا أن الشرط المعتبر في الآية هو حصول الرشد في رعاية مصالح المال لا ضرب من الرشد كيف كان، ثم قال: والقياس الجلي يقوي الاستدلال بالآية لأن الصبي إنما منع منه المال لفقدان العقل الهادي إلى كيفية حفظ المال وكيفية الانتفاع به؛ فإذا كان هذا المعنى حاصلًا في الشاب والشيخ كانا في حكم الصبي. فوجب أن يمنع دفع المال إليهما إن لم يؤنس منهما الرشد ومنه يعلم ما في التعليل السابق أعني قولهم لأن المنع كان لرجاء التأديب إلخ من النظر ولقوة كلام المخالف في هذه المسألة شنع الضال ابن حزم كعادته مع سائر أئمة الدين على الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، وتابعه في ذلك سفهاء الشيعة كيوسف الأوالي وغيره ولا يخفى أن المسألة من الفروع، وكم لابن حزم وأتباعه فيها من المخالفات للكتاب والسنة ومتمسكهم في ذلك بما هو أوهى وأوهن من بيت العنكبوت.
ومن أمعن النظر فيما ذهب إليه الإمام علم أن نظره رضي الله تعالى عنه في ذلك دقيق لأن اليتيم بعد أن بلغ مبلغ الرجال واعتبر إيمانه وكفره وصار مورد الخطابات الالهاية والتكاليف الشرعية وسلم الله تعالى إليه نفسه يتصرف بها حسب اختياره المترتب عليه المدح والذم والثواب والعقاب كان منع ماله عنه وتصرف الغير به أشبه الأشياء بالظلم، ثم هذا وإن اقتضى دفع المال إليه بعد البلوغ مطلقًا من غير تأخير إلى بلوغه سن خمس وعشرين فيمن بلغ غير رشيد إلا أنا أخرنا الدفع إلى هذه المدة للتأديب ورجاء الرشد والكف عن السفه وما فيه تبذير المال وإفساده، ونظير ذلك من وجه أخذ أموال البغاة وحبسها عنهم ليفيئوا، واعتبرت الزيادة سبع سنين لأنها كما تقدم مدة معتبرة في تغير الأحوال، والعشر مثلًا وإن كانت كذلك كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع» إلا أنا اعتبرنا الأقل لأنه كاف في الغرض غالبًا، ولا يرد أن المنع يدور مع السفه لأنا لا نسلم أنه يدور مع السفه مطلقًا بل مع سفه الصبا ولا نسلم بقاءه بعد تلك المدة على أن التعليق بالشرط لا يوجب العدم عند عدمه عندنا فأصل الدوران حينئذ ممنوع، وعلى هذا لا معنى للتشنيع على الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه فيما ذهب إليه.
ويؤيد مذهبه أيضًا قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ} فإنه مشير إلى أنه لا يمنع مال اليتيم عنه إذا كبر، إذ المعنى لا تأكلوا أموالهم مسرفين ومبادرين كبرهم بأن تفرطوا في إنفاقها وتقولوا ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا إلا أنه قدر الكبر فيمن بلغ سفيها بما تقدم لما تقدم، فافهم ذاك والله تعالى يتولى هداك. والإسراف في الأصل تجاوز الحدّ المباح إلى ما لم يبح، ورا كان ذلك في الإفراط، ورا كان في التقصير غير أنه إذا كان في الإفراط منه يقال: أسرف يسرف إسرافًا، وإذا كان في التقصير يقال: سرف يسرف سرفًا ويستعمل عنى السهو والخطأ وهو غير مراد أصلًا، والمبادرة المسارعة وهي لأصل الفعل هنا وتصح المفاعلة فيه بأن يبادر الولي أخذ مال اليتيم واليتيم يبادر نزعه منه، وأصلها كما قيل: من البدار وهو الامتلاء ومنه البدر لامتلائه نورًا، والبدرة لامتلائها بالمال، والبيدر لامتلائه بالطعام والاسمان المتعاطفان منصوبان على الحال كما أشرنا إليه، وقيل: إنهما مفعول لهما والجملة معطوفة على ابتلوا لا على جواب الشرط لفساد المعنى لأن الأول بعد البلوغ وهذا قبله، و{يكبروا} بفتح الباء الموحدة من باب علم يستعمل في السن، وأما بالضم فهو في القدرة والشرف، وإذا تعدى الثاني بعلى كان للمشقة نحو كبر عليه كذا وتخصيص الأكل الذي هو أساس الانتفاع وتكثر الحاجة إليه بالنهي يدل على النهي عن غيره بالطريق الأولى، وفي الجملة تأكيد للأمر بالدفع وتقرير لها وتمهيد لما بعدها من قوله تعالى: {وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} إلخ أي ومن كان من الأولياء والأوصياء ذا مال فليكف نفسه عن أكل مال اليتيم ولينتفع بما آتاه الله تعالى من الغنى، فالاستعفاف الكف وهو أبلغ من العف، وفي المختار يقال: عف عن الحرام يعف بالكسر عفة وعفا وعفافة أي كف فهو عف وعفيف؛ والمرأة عفة وعفيفة، وأعفه الله تعالى واستعف عن المسألة أي عف، وتعفف تكلف العفة، وتفسيره بالتنزه كما يشير إليه كلام البعض بيان لحاصل المعنى.
{وَمَن كَانَ} من الأولياء والأوصياء {فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} بقدر حاجته الضرورية من سدّ الجوعة وستر العورة قاله عطاء وقتادة. وأخرج ابن المنذر والطبراني عن ابن عباس أنه قال: يأكل الفقير إذا ولي مال اليتيم بقدر قيامه على ماله ومنفعته له ما لم يسرف أو يبذر، وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ليس لي مال وإني وليّ يتيم فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف ولا متأثل مالًا ومن غير أن تقي مالك اله، وهل يعدّ ذلك أجرة أم لا؟ قولان، ومذهبنا الثاني كما صرح به الجصاص في الأحكام، وعن سعيد بن جبير ومجاهد وأبي العالية والزهري وعبيدة السلماني والباقر رضي الله تعالى عنهم وآخرين أن للولي الفقير أن يأكل من مال اليتيم بقدر الكفاية على جهة القرض فإذا وجد ميسرة أعطى ما استقرض، وهذا هو الأكل بالمعروف، ويؤيده ما أخرجه عبد بن حميد وابن أبي شيبة وغيرهما من طرق عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: إني أنزلت نفسي من مال الله تعالى نزلة مال اليتيم إن استغنيت استعففت وإن احتجت أخذت منه بالمعروف فإذا أيسرت قضيت، وأخرج أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ وابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: {وَمَن كَانَ فَقِيرًا} الآية نسختها {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْمًا} [النساء: 10] الخ، وذهب قوم إلى إباحة الأكل دون الكسوة، ورواه عكرمة عن ابن عباس، وزعم آخرون أن الآية نزلت في حق اليتيم ينفق عليه من ماله بحسب حاله، وحكي ذلك عن يحيى بن سعيد وهو مردود لأن قوله سبحانه: {فَلْيَسْتَعْفِفْ} لا يعطي معنى ذلك، والتفكيك مما لا ينبغي أن يخرج عليه النظم الكريم.
{فَإِذَا دَفَعْتُمْ} أيها الأولياء والأوصياء {إِلَيْهِمُ} أي اليتامى بعد رعاية ما ذكر لكم {أموالهم} التي تحت أيديكم، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للاهتمام به {فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ} بأن قبضوها وبرئت عنها ذممكم لما أن ذلك أبعد عن التهمة وأنفى للخصومة وأدخل في الأمانة وهو أمر ندب عندنا، وذهب الشافعية والمالكية إلى أنه أمر وجوب، واستدلوا بذلك على أن القيم لا يصدق بقوله في الدفع بدون بينة.
{وكفى بالله حَسِيبًا} أي شهيدًا قاله السدي، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن معنى وكفى بالله حسيبًا أنه لا شاهد أفضل من الله تعالى فيما بينكم وبينهم وهذا موافق لمذهبنا في عدم لزوم البينة، وقيل: إن المعنى وكفى به تعالى محاسبًا لكم فلا تخالفوا ما أمرتم به ولا تجاوزوا ما حدّ لكم، ولا يخفى موقع المحاسب هنا لأن الوصي يحاسب على ما في يده، وفي فاعل كفى كما قال أبو البقاء: وجهان، أحدهما: أنه الاسم الجليل، والباء زائدة دخلت لتدل على معنى الأمر، فالتقدير اكتفوا بالله تعالى، والثاني: أن الفاعل مضمر والتقدير كفى الاكتفاء بالله تعالى فبالله على هذا في موضع نصب على أنه مفعول به، وحسيبًا حال، وقيل: تمييز، وكفى متعدية إلى مفعول واحد عند السمين، والتقدير وكفاكم الله حسيبًا، وإلى مفعولين عند أبي البقاء والتقدير، وكفاكم الله شركم ونحو ذلك.
هذا ومن باب الإشارة: {تُفْلِحُونَ يَأَيُّهَا الناس اتقوا رَبَّكُمُ} أي احذروه من المخالفات والنظر إلى الأغيار والزموا عهد الأزل حين أشهدكم على أنفسكم {الذى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة} وهي الحقيقة المحمدية ويعبر عنها أيضًا بالنفس الناطقة الكلية التي هي قلب العالم وبآدم الحقيقي الذي هو الأب لآدم، وإلى ذلك أشار سلطان العاشقين ابن الفارض قدس سره بقوله على لسان تلك الحقيقة:
وإني وإن كنت ابن آدم صورة *** فلي فيه معنى شاهد بأبوتي
{وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} وهي الطبيعة أو النفس الحيوانية الناشئة منها، وقد خلقت من الجهة التي تلي عالم الكون وهو الضلع الأيسر المشار إليه في الخبر، وقد خصت بذلك لأنها أضعف من الجهة التي تلي الحق {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا} أي كاملين يميلون إلى أبيهم {ونساءًا} ناقصين يميلون إلى أمهم {وَنِسَاء واتقوا الله الذى تَسَاءلُونَ بِهِ} فلا تثبتوا لأنفسكم وجودًا مع وجوده لأنه الذي أظهر تعيناتكم بعد أن لم تكونوا شيئًا مذكورًا واتقوا الأرحام أي اجتنبوا مخالفة أوليائي وعدم محبتهم فإن من وصلهم وصلته ومن قطعهم قطعته فالأرحام الحقيقية هي قرابة المبادىء العالية {إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] ناظرًا إلى قلوبكم مطلعًا على ما فيها فإذا رأى فيها الميل إلى السوي وسوء الظن بأهل حضرته ارتحلت مطايا أنواره منها فبقيت بلاقع تتجاوب في أرجائها البوم {وَءاتُواْ اليتامى} وهم يتامى القوى الروحانية المنقطعين عن تربية الروح القدسي الذي هو أبوهم {أموالهم} وهي حقوقهم من الكمالات {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب} بأن تعطوا الطيب من الصفات وتذيلوه وتأخذوا بدله الخبيث منها وتتصفوا به {وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم} بأن تخلطوا الحق بالباطل {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2] أي حجابًا عظيمًا {وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا *تُقْسِطُواْ} أي تعدلوا في تربية يتامى القوي {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء مثنى وثلاث وَرُبَاعَ} لتقل شهواتكم وتحفظوا فروجكم فتستعينوا بذلك على التربية لما يحصل لكم من التزكية عن الفاحشة {فَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تَعْدِلُواْ} بين النساء فتقعوا في نحو ما هربتم منه {فواحدة} [النساء: 3] تكفيكم في تحصيل غرصنكم {وَءاتُواْ النساء صدقاتهن} مهورهن {نِحْلَةً} عطية من الله وفضلًا، وفيه إشارة إلى التخلية عن البخل والغدر والتحلية بالوفاء والكرم، وذلك من جملة ما يربي به القوي {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا} [النساء؛ 4] ولا تأنفوا وتتكبروا عن ذلك وهذا أيضًا نوع من التربية لما فيه من التخلية عن الكبر والأنفة والتحلية بالتواضع والشفقة {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم} أي لا تودعوا الناقصين عن مراتب الكمال أسراركم وعلومكم {التى جَعَلَ الله لَكُمْ قياما وارزقوهم فِيهَا} أي غذوهم بشيء منها {واكسوهم} أي حلوهم {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} [النساء؛ 5] لينقادوا إليكم ويسلموا أنفسهم بأيديهم {وابتلوا اليتامى} أي اختبروهم، ولعله إشارة إلى اختبار الناقصين من السائرين {حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ} وصلحوا للإرشاد والتربية {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا} أي استقامة في الطريق وعدم تلون {فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم} التي يستحقونها من الأسرار التي لا تودع إلا عند الأحرار. والمراد إيصاء الكمل من الشيوخ أن يخلفوا ويأذنوا بالإرشاد من يصلح لذلك من المريدين السالكين على أيديهم {وَلاَ تَأْكُلُوهَا} أي تنتفعوا بتلك الأموال دونهم {إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ} بالتصدي للإرشاد فإن ذلك من أعظم أدواء النفس والسموم القاتلة {وَمَن كَانَ} منكم {غَنِيًّا} بالله لا يلتفت إلى ضرورات الحياة أصلًا {فَلْيَسْتَعْفِفْ} عما للمريد {وَمَن كَانَ فَقِيرًا} لا يتحمل الضرورة {فَلْيَأْكُلْ} أي فلينتفع بما للمريد {بالمعروف} وهو ما كان بقدر الضرورة {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ} الله تعالى وأرواح أهل الحضرة وخذوا العهد عليهم برعاية الحقوق مع الحق والخلق {وكفى بالله حَسِيبًا} [النساء: 6] لأنه الموجود الحقيقي والمطلع الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8